الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم
.القول الثالث: إن آخر آية نزلت آية الدين، وهي قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ...} الآية [البقرة: 282] وهي أطول آية في القرآن. أخرج أبو عبيد في كتاب فضائل القرآن عن ابن شهاب الزهري قال: آخر القرآن عهدا بالعرش آية الربا، وآية الدين، وأخرج ابن جرير من طريق ابن شهاب، عن سعيد ابن المسيب: أنه بلغه أن آخر القرآن عهدا بالعرش آية الدين مرسل، صحيح الإسناد.ويجاب عن هذا القول: بأن هذه الآية آخر ما نزل في باب المعاملات فهي آخرية مقيدة، لا مطلقة كالآية الأولى.وقد جمع السيوطي بين هذه الأقوال الثلاثة فقال: ولا منافاة عندي بين هذه الروايات في آية الربا، وآية: {وَاتَّقُوا يَوْماً...} وآية الدين لأن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف، ولأنها قصة واحدة، فأخبر كل عن بعض ما نزل بأنه آخر، وذلك صحيح. ومقتضى هذا الجمع من الإمام السيوطي أن آية الدين آخر ما نزل من القرآن على الإطلاق.ولكني أقول: إن في النفس من هذا التوفيق شيئا، وما ذكره غير مسلم له، فقد سمعت آنفا قول الفاروق عمر رضي الله عنه في أن آية الربا من أواخر الآيات، لا آخرها؛ واستدلال السيوطي بأن الآيات الثلاث في قصة واحدة- غير مسلم فالآية الأولى في ترك ما بقي من الربا عند المدينين بعد نزول آية التحريم، والثانية في التذكير باليوم الآخر، وما فيه من جزاء، والثالثة في أحكام تتعلق بالدين، فكيف يقال إذا إنها في قصة واحدة!!ومما يضعف هذا الطريق في الجمع أيضا، أن آية الربا نزلت لما أسلمت ثقيف وأرادوا أن يستمروا على رباهم؛ فاشتكى بنو المغيرة- وكانوا مدينين لهم- إلى عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية آمرة لهم أن يتركوا ما بقي لهم من رباهم قبل التحريم، وإلا فليأذنوا بحرب من الله ورسوله، وثقيف إنما كان إسلامهم في رمضان في السنة التاسعة، والظاهر أن هذه القصة كانت بعد إسلامهم، وأين زمن إسلامهم من زمن اختتام القرآن قبيل وفاة الرسول!وقد ذهب الحافظ ابن حجر في الفتح إلى نحو ما ذكرت، ورجح أن آية: {وَاتَّقُوا يَوْماً...} هي الأليق بالختام فقال: طريق الجمع بين القولين:القول بآية الربا، والقول بآية: {وَاتَّقُوا يَوْماً...} أن هذه الآية هي ختام الآيات المنزلة في الربا إذ هي معطوفة عليهن، وأما ما سيأتي في آخر سورة النساء من حديث البراء: آخر سورة نزلت براءة، وآخر آية نزلت: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ...} الآية. فيجمع بينه وبين قول ابن عباس، بأن الآيتين نزلتا جميعا، فيصدق أن كلا منهما آخر بالنسبة لما عداها، ويحتمل أن تكون الآخرية في سورة النساء مقيدة بما يتعلق بالمواريث مثلا بخلاف آية البقرة، ويحتمل عكسه والأول أرجح لما في آية البقرة من الإشارة إلى معنى الوفاة المستلزمة لخاتمة النزول، وحكى ابن عبد السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم- عاش بعد نزول الآية المذكورة- يعني آية البقرة- أحدا وعشرين يوما، وقيل: سبعا.وبعد هذا التحقيق يتبين لنا أن الصحيح أن آخر ما نزل على الإطلاق هي آية: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ...} لما حف بها من دلائل وقرائن..القول الرابع: إن آخر ما نزل هو قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [سورة النساء: 176]، وآخر ما نزل من السور براءة.ويدل على هذا ما رواه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب أنه قال: آخر سورة نزلت براءة وآخر آية نزلت: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ...}.ويجاب عن هذا بأن سورة {براءة} آخر ما نزل في شأن القتال والجهاد، أو أن في الكلام تقديرا؛ أي من أواخر السور نزولا سورة {براءة} وأن آية الكلالة آخر ما نزل في شأن المواريث، وقد سمعت آنفا قول الحافظ ابن حجر في هذا..القول الخامس: إن آخر ما نزل قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً} [النساء: 93].واستدل صاحب هذا القول بما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس.قال: نزلت هذه الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيهَا} هي آخر ما نزل وما نسخها شيء.ويجاب عن هذا القول: بأنها آخر ما نزل في حكم قتل المؤمن عمدا فهي آخرية مقيدة، ويؤيد هذا قوله في الحديث: وما نسخها شيء، فهو يدل على نزول شيء بعدها ولكن ليس بناسخ لها، وقوله في حديث النضر- عند مسلم- عن ابن عباس قال: إنها لمن آخر ما أنزلت وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عنه: لقد نزلت في آخر ما نزل، ما نسخها شيء..القول السادس: إن آخر ما نزل هو قوله تعالى في خاتمة سورة {براءة}: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [سورة التوبة: 128- 129].والدليل على ذلك ما رواه الحاكم في المستدرك عن أبي بن كعب قال: آخر آية نزلت: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ...} إلى آخر السورة.وروى ابن مردويه عن أبي أيضا قال: آخر القرآن عهدا بالله هاتان الآيتان: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ...} إلى قوله: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [سورة التوبة: 128- 129].ويجاب عنه: بأنهما آخر ما نزل من سورة {براءة}، أو أنه أخبر بذلك بحسب ظنه واجتهاده..القول السابع: إن آخر ما نزل سورة المائدة، واستند صاحب هذا القول إلى ما رواه الترمذي، والحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: آخر سورة نزلت المائدة فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم من حرام فحرموه.ويجاب عن هذا القول: بأنها آخر سورة نزلت في الحلال والحرام، ولم ينسخ فيها شيء، ويشير إلى هذا آخر الحديث..القول الثامن: إن آخر سورة نزلت هي: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ...} السورة، روى هذا مسلم في صحيحه عن ابن عباس، ورواه النسائي أيضا عنه.ويجاب عن هذا القول: بأنها آخر سورة نزلت بتمامها في حجة الوداع، فلا ينافي نزول آية أو آيات بعدها.أو أنها آخر ما نزل مشعرا بوفاة النبي صلوات الله وسلامه عليه ويؤيد هذا ما رواه البخاري عن ابن عباس حين سأله عمر رضي الله عنه بمحضر من الصحابة عنها، فقال: أجل، أو مثل ضرب لمحمد صلى الله عليه وسلم نعيت إليه نفسه وفي رواية أخرى للبخاري عن ابن عباس: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه إياه.فقال عمر رضي الله عنه ما أعلم منها إلا ما تقول، وروى أبو يعلى عن ابن عمر: أن هذه السورة نزلت في حجة الوداع، في أوسط أيام التشريق، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الوداع..القول التاسع: أن آخر ما نزل هو قوله تعالى: {فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ...} [آل عمران: 195] الآية. فقد أخرج ابن مردويه من طريق مجاهد عن أم سلمة أنها قالت: آخر آية نزلت هذه الآية: {فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ...} والظاهر أن مرادها آخر آية نزلت في شأن النساء؛ فقد روي عنها أنها قالت: يا رسول الله، أرى الله يذكر الرجال ولا يذكر النساء، فأنزل الله: {وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ...} [النساء: 32]، وأنزل الله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ} [الأحزاب: 35]، وأنزل الله: {فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} فهذه الآية آخر الثلاثة نزولا.هذا وقد أوصل السيوطي في الإتقان الأقوال إلى عشرة.وقد عرفت أن القول الأول هو الصحيح الراجح، وعرفت الإجابة عما ورد مخالفا له، وأن المراد أواخر مقيدة، لا مطلقة وهذه الطريقة في التوفيق بين النصوص المتعارضة في هذا الباب هي أعدل الطرق، وهو المنهج الذي سلكه المحققون من العلماء، ولكن القاضي أبا بكر الباقلاني في كتابه الانتصار يذهب مذهبا آخر في التوفيق فيقول:هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكل قال ما قاله بضرب من الاجتهاد، وغلبة الظن ويحتمل أن كلا منهم أخبر عن آخر ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه، أو قبل مرضه بقليل، وغيره سمع منه بعد ذلك، وإن لم يسمعه هو.ويحتمل أيضا: أن تنزل هذه الآية التي هي آخر آية تلاها الرسول صلى الله عليه وسلم مع آيات نزلت معها فيؤمر برسم ما نزل معها بعد رسم تلك؛ فيظن أنها آخر ما نزل في الترتيب.ومرد هذا التوفيق بين الأقوال إلى غلبة الظن، والاجتهاد من القائل بناء على ما سمعه أو شاهده من قرائن، وقد لا يوافق الظن والاجتهاد الواقع ونفس الأمر، وقد تركنا صاحب هذا الرأي بين جملة من الاحتمالات، من غير أن يقطع برأي.ويقرب من هذا الرأي في التوفيق ما ذهب إليه البيهقي أيضا حيث قال: يجمع بين هذه الاختلافات- إن صحت- بأن كل واحد أجاب بما عنده.
|